على رغم من انّ القرار الضمني للحكومة هو تأجيل دفع مستحقات «اليوروبوندز» وإعادة الجدولة، إلّا انّ الضغوط تستمر يميناً وشمالاً لحضّها على تبديل موقفها.
الأهم من ذلك مواقف السفراء الأوروبيين والغربيين الذين يقولون، في إطار نقاشاتهم حول هذا الملف، ان ليس لديهم رأياً ينصحون به لبنان، ذلك انّ لدفع المستحقات سلبياته ولعدم الدفع ارتدادات سلبية اخرى، إلّا أنّ الشعور الذي ينتاب من يسمعهم يشير الى انهم يفضّلون ان يذهب لبنان في اتجاه الالتزام بدفع استحقاقاته، او على الاقل، إجراء المفاوضات المطلوبة للوصول الى القرار المطلوب والصائب في هذا الاطار.
وبعد استحقاق التاسع من آذار، سينطلق رئيس الحكومة حسان دياب في جولته الخارجية الاولى منذ دخوله الى السراي الحكومي. وحتى أمس لم تكن اي اشارة قد صدرت من السعودية لتحديد موعد له. لا بل على العكس، فإنّ ديبلوماسياً سعودياً بارزاً، ورداً على سؤال شخصية سياسية قريبة من رئيس الحكومة حول موعد زيارة دياب الى المملكة، أجاب: «اذا كان يودّ القيام بزيارة «العمرة» فأهلاً وسهلاً به».
واضح انّ الجواب كان يحمل في طيّاته رفضاً قاطعاً لاستقباله سياسياً كرئيس للحكومة.
إزاء ذلك، فإن زيارة دياب الخارجية الاولى سيطرأ عليها تعديل جوهري بحيث تصبح مصر هي المحطة الاولى، على أن تليها سلطنة عمان فالكويت وأخيراً قطر.
أمّا زيارته لفرنسا فهي مفتوحة وقائمة عندما يرى ذلك مناسباً، على حَدّ ما قال له السفير الفرنسي خلال زيارته الاخيرة للسراي الحكومي. لكن المسألة أبعد بكثير من حصول الزيارات، فالمهم ما اذا كانت ستحمل معها مساعدات للبنان هو بأمسّ الحاجة إليها.
ويُروى انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كان قد سمع وعداً بالمساعدة المالية من قطر بما يوازي المليار دولار، وذهب إثر ذلك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى قطر للوقوف على تفاصيل هذه المساعدة. الّا انّ رياض سلامة، الذي لم يستطع مقابلة المسؤولين الكبار، سمع رواية أخرى تقول إنّ قطر مستعدة لبناء معمل لتوليد الطاقة في لبنان على ان تتولى هي الاشراف على أعمال البناء.
الواضح انّ الموقف القطري تبدّل خلال بضعة ايام من مساعدة مالية نقدية الى مساعدة في تقديم معمل تُشرف هي على كل تفاصيله، وتوقفت الاتصالات هنا.
المشكلة الفعلية التي تواجهها الحكومة هي في انعدام الثقة الخارجية والداخلية في شفافية الطبقة السياسية.
وخلافاً للحرب السياسية المعلنة على الحكومة من قوى وأحزاب لبنانية بأساليب مختلفة، الّا انّ بعض العواصم الاوروبية، وفي طليعتها باريس، مقتنعة بأنّ تأثير «حزب الله» في هذه الحكومة هو الأضعف قياساً الى تأثيره على الحكومات التي سبقتها.
ولا تتردد الاوساط الديبلوماسية الفرنسية في إعطاء رأيها عندما تُسأل عن ذلك. وهو ما قد يفسّر حال الترقّب التي تنتهجها بعض العواصم العربية والغربية على حد سواء، لكنّ المشكلة تكمن أيضاً وخصوصاً في عدم ثقة الشارع اللبناني بالطبقة السياسية وبإمكانية تجاوز الأزمة الحادة التي تكاد تخنق لبنان.
ويروي ديبلوماسي أوروبي ما وصله من معلومات حول وجود ما بات يقرب من العشرة مليارات دولار نقداً في منازل اللبنانيين، نصفها بالعملة الخضراء والنصف الآخر بالعملة اللبنانية.
في الواقع حتى العواصم الاوروبية المهتمة بالملف اللبناني لا تملك تصوراً واضحاً للمسار الذي ستسلكه الأزمة الحاصلة. صحيح انها ليست مُرتعبة على المدى البعيد لسبب بسيط، وهو انّ الاقتصاد اللبناني صغير وانّ إنقاذه في نهاية الامر ليس بالمسألة المستعصية، الّا انّ هذه العواصم ليس لديها «خطة ب» في حال عجزت هذه الحكومة عن الصمود واتّجه الوضع الى مزيد من الانهيار.
صحيح انّ الانطباع الاول الموجود لدى الجميع أنّ حسان دياب هو رجل عنيد، لكن لا احد يستطيع التقدير ما اذا كان هذا «العناد» سيُترجَم إيجاباً ام سلباً. أضف الى ذلك أنه من الصعب الحكم منذ الآن على طريقة تفاعل هذه الحكومة، ذلك انّ عمرها لم يتجاوز بعد الثلاثة اسابيع وهي لم تتخذ قراراً بعد، ولم تَخض فعلياً معركة جدية لكي يستكشف المراقبون مدى تماسكها وقدرتها على المواجهة.
لكن وعلى رغم من ذلك فإنّ رهان الأوروبيين، وخصوصاً الفرنسيين، ما يزال قائماً على إنجازات ستحققها الحكومة خصوصاً في موضوع الاصلاحات وملف الكهرباء الذي سيعطي إشارة ايجابية مهمة جداً، إذ انّ بعض الوجوه الوزارية تبدو مصممة على العمل وهي لم تتردد في القول انها ستنسحب اذا فشلت في مهمتها.
الّا انّ عمق الازمة لا يتلخّص فقط في الجانب الاقتصادي والمالي، فهنالك الجانب السياسي والحملة التي تَشنّها واشنطن على طهران ومعها «حزب الله».
ذلك انّ ادارة ترامب التي تسعى لإلحاق الأذى بـ»حزب الله» لا تهتمّ بما اذا كان الوضع اللبناني برمّته يُطاوله الاذى، بخلاف الموقف الفرنسي الذي يحذّر من أنّ غرق لبنان في نهاية المطاف سيقضي على مقومات وجوده.
وما بين لقائه مع مسؤولي «حزب الله» في كانون الاول الماضي ولقائه الأخير معهم منذ نحو اسبوع، شعر السفير الفرنسي بوجود مرونة اكثر في موقف الحزب، فمثلاً كان يرفض في المطلق تَدخّل صندوق النقد الدولي لارتيابه من أهدافه الحقيقية. امّا الآن فإنه بات أقل توجّساً واكثر قبولاً للمساعدة، ولكنها محددة من الصندوق في مجال الاستشارة وما شابَه. وقد يكون التقييم الغربي انّ هناك نقاشاً داخل قيادة «حزب الله» بين وجهتي نظر، واحدة رافضة وثانية مؤيدة، وهو ما يفسّر إطلالة نائب الامين العام لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم التي أعلن فيها رفضه صندوق النقد الدولي.
لكنّ التبدّل في موقف «حزب الله» لم يقتصر على هذه الناحية فقط وفق المنظار الاوروبي، بل انه طاوَل مجمل نظرته الى الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين الاول الماضي. ففي البداية كان يرى في ما يحصل حركة مفتعلة يمكن تجاوزها من خلال إجراءات تقليدية أمنية وسياسية، لكنه اليوم، ووفق التقييم الاوروبي أصبح مقتنعاً بحجم الازمة التي ضربت صميم البيئة الاجتماعية اللبنانية، وهو باتَ أكثر خوفاً من هول الكارثة المعيشية والاقتصادية التي تضرب لبنان، وطريقة احتوائها.
ففي الجانب الاميركي، هنالك نيّات للاندفاع أكثر في سياسة العقوبات والضغط المالي والاقتصادي من دون الالتفات الى التداعيات الخطرة على لبنان. لكن وفي المقابل تحاول فرنسا التلويح بأنها قادرة على التأثير على الاندفاعة الاميركية والعمل على احتوائها، وانّ هنالك سوابق تاريخية كثيرة في هذا الاطار.
لكنّ «المفتاح» الفرنسي في حاجة الى تعاون لبناني فعلي، وإصلاحات جدية وكبيرة وصعبة لا بد من حصولها.